جذور عمارة المجتمع العربي
إن كان المجتمع الغربي الحداثي ( كما رأينا في المقال السابق ) قد اختزل الفرد ببعده العلمي وقلل من أهمية الأبعاد الأخرى، فإن العرب قد أعطو النقيض المثالي لما يمكن أن يكون عليه المجتمع إذا ما أختزل ببعده الوجودي، فامتاز عصرهم بالجاهلية من قبل المؤرخين المسلمين، ولكن يجب علينا تجنب الأحكام المسبقة التي تكونت كردة فعل عكسية نتيجة لإسلامهم، ومحاولة فهم المجتمع العربي وخصائصه بشكل موضوعي، وما كانت عليه الحياة من منظورهم، وكيف ساهموا في تشكيل حضارتهم ومدنيتهم الخاصة في العصر الإسلامي
فمعنى العرب في معجم المعاني الجامع هم الصرحاء الخلص، فإذا قلنا أعرب الرجل عن نفسه، أي أنه أظهر ما في داخله، والماء العرب أي الماء إذا صفى، وكذلك إذا قلنا عَرِب الجرح أي تورم و تقيح، فهي بهذا المعنى إزدياد وضوح جوهر طبيعة الأشياء، فاشتهر العرب بالفصاحة والبيان وقدرتهم في التعبير بدقة ووضوح عن أنفسهم، و أما على الصعيد الخارجي، فإن العربي قد ارتبط إسمه بالبداوة من قبل الحضارات التي أحاطت به، ففي النقوش المسمارية ذكر العرب بمعنى البدو ، وتسمى شبه الجزيرة العربية بماط عربي أي أرض البدو، وفي اليمن يسمون البدو السبئيين بأعرب سبأ، ويرتبط العرب إجتماعياً فيما بينهم عن طريق قرابة الدم، فمعروف عن العرب بقبليتهم واهتمامهم بالأنساب لرجوعهم إلى أصل واحد يجمعهم وهو يعرب بن قحطان، فهو أول من أعرب بلسانهم. وانقسمت حياة العرب إلى قسمين، وهما حياة البدو، وحياة الاستقرار، ولما كانت معظم الأراضي صحراوية، فإن نمط الحياة البدوية كان يطبع الحياة العامة بطابعه. ولم تقم المدن والقرى إلا في الواحات الخصبة المنتشرة هنا وهناك في أماكن متفرقة أو في المحطات التجارية للقوافل، فنمت وصارت مدنًا
يمتاز العربي بعشقه لحريته وكرهه للقيود، فتراه حريصاً على إبقاء نفسه وعتاده خفيفاً، "زاهداً فيما سيأتي ناسياً ما قد مضى"، معتمداً على نفسه في كسب مصدر حياته، فالخيمة مصنع مستقل ومتكامل يغطي مختلف إحتياجات البدوي وعائلته، من ملبسٍ ومأكلٍ ومشرب، معولين على حدة سيوفهم وثقافة رماحهم في تأمين قوت عيشهم، محقرين من يكتسب رزقه من مهنته، فهي مشتقة من المهانة والضعف، ونفروا من قاطني المدن، فيقال بأن الميم زائدة بحسب معجم "شمس العلوم"، فهي من مادّة الدَّين، وهو الخضوع تحت برنامج أو مقرّرات يلتزم بها أهل المدينة. ولقد ترتب على تمسكهم بأسلوب حياتهم الحر، إلى تجذرهم على إتساع صحراءهم، وتشربهم لخصائص طبيعتها، فقد تشكل العرب على صورة باديتهم، منفتحين عليها، غير متدرعين بأسوار وتقنيات وسيطة، فشجاعة العربي قرّبته من بيئته، وجعلته شديد الحساسية بها، مهتماً بوصف أدق تفاصيلها، متمعناً بها، مجلياً لأوصافها، موظفاً أصوات حروفه لتعكس صدى وجدانه عنها، متخذاً من اللغة العربية والشعر، مدناً وعلم آثارٍ حية، عابرةٍ للأماكن والأزمان
وشكّل أسلوب حياة العرب خصائصهم، حيث امتازوا كما يصف محمد الطاهر بن عاشور بصفات أربعٍ وهي: جودة الأذهان، وقوة الحوافظ، وبساطة الحضارة، والبعد عن الاختلاط ببقية أمم العالم، وهذا ما جعلهم من أكثر المجتمعات أصالة لبيئتهم وأقربهم لفطرتهم، كما يصفها محمد رشيد رضا أنهم كانوا أسلم الناس فطرة، على كون أمم الحضارة كانت أرقى منهم في كل فنٍّ وصنعة، مقدمين إصلاح النفس باستقلال العقل والإرادة وحرية الوجدان، على إصلاح ما في الأرض من معدِن ونبات وحيوان
فجاء الإسلام مخاطباً خصائص العرب، فالإسلام ينطلق من الفرد ولا ينتهي عنده، فالدين يحاكي الفطرة، فهي البصيرة الأخلاقية التي من خلالها يميز الإنسان بين الخير والشر، والحسن والقبيح، والنافع والضار، والأنانية والإسراف، ومنها تبدأ المسؤولية على الفرد ليساهم في تشكيل مجتمعه، فهي هيكلية تصاعدية أساسها الفرد، ف"الدين" هو مجموعة الالتزامات والضوابط التي يدين بها الفرد لخالقه ليقوِّم بها فطرته، ملتزماً بمراقبته الذاتية، ومساهماً بما فيه مصلحة له وليغيره، فاستطاع الإسلام بهذا أن يوفق بين فطرة العربي الحرة وبين التزامه بمسؤولياته تجاه مجتمعه، لتنشأ بذلك مدنيته العضوية والخاصة. ويضع ابن القيم أربعة أركان للأخلاق وهي: الصبر والعفة والشجاعة والعدل، فإذا ما طبقت هذه الأركان الأربعة على الفرد، يصبح إرتقاء الإنسان أخلاقياً يتناسب تناسباً عكسياً مع قيمة المادة، و يتناسب تناسباً طردياً مع المصلحة العامة لمجتمعه، فيكون المجتمع ككل أكثر كفاءةً وتكافلاً بازدياد إنسانيته، و يزداد قربه لطبيعته ومن فطرته، والذي يجعل الفرد جزء من كل يكمله، و يكتمل به، فمن خلاله تتم عملية الإصلاح بمفهومها الأوسع، ليشمل كل أبعاده الاقتصادية والثقافية والبيئية، فالدين جاء لتحفيز الفرد على المساهمة في عملية إعمار الأرض وإحيائها
ولم يقتصر مفهوم الإحياء في الإسلام على الإنسان والحيوان و النبات، بل ارتبط ايضاً بإحياء الجمادات، كما نراها في العمارة الاسلامية، إنطلاقاً من خصائص التربة الطبيعية المكنونة بها، فكل مادة لها خصائصها التي تفرض هويتها وطريقة تشكلها، ومن هنا نجد أن اهتمام المسلمين بتطوير الأقواس والمقرنصات والقباب، ما هو إلا انعكاس وتجسيد لمفهوم إحياء الأرض، فكما ارتبطت أعمدة المساجد بأسماء علمائها الذين استقطبوا نفوس طلابهم التي تتوق لترتقي بعقولهم وقلوبهم ، نرى كيف بإحياء خصائص الطوب تتشكل الأقواس مرتكزةً على أعمدتها لتسمو بها إلى السماء وتتشكل على الهيئة الأنقى والأكفأ لها. كذلك نرى الدور الوظيفي لقبب الجوامع من الناحية الإنشائية و الصوتية، والتي كان لها أيضًا وظيفة جمالية، والتي طالما رمزت إلى السماء، التي هي مصدر النور، وقد شبه المعمار سنان القبة التي تعلو مسجد السليمية في أدرنة، التي تبدو للناظر أنها محمولة بالهواء "بالسماء المرفوعة بلا عمد"، لكثرة النوافذ المفتوحة على امتداد محيط قاعدتها. كما نرى بعض المؤرخين والمفكرين الإسلاميين الذين يربطون بين باب المساجد ودعاء دخوله: "اللهم افتح لي أبواب رحمتك" كمصدر إلهام للمقرنصات التي زينت أبواب المساجد، التي تُشعر بنزول أمطار الرحمة عليهم، كما ربطها آخرون بالنجوم التي تزين السماء. ونرى كيف كسو جدران ساحات مساجدهم وبيوتهم بالزخارف، لتحيي ظلالاً ارتبطت حياتها بحركة شمسها، المتغيرة على مدى العام، ولكي تقلل من مساحة اصطدام اشعة الشمس على جدرانها، مخففتاً من انتقال حرارتها الى الفراغات الداخلية والخارجية. فالعمارة الإسلامية استطاعت الجمع بين الرمزية والوظيفية، وجعلتهم كوحدة واحدة لتؤصل وجودها في الكون. لقد كان “هنري فوسيون “دقيق التعبير حينما قال : ” ما أخال شيئا يمكنه أن يجرد الحياة من ثوبها الظاهر وينقلنا إلى مضمونها الدفين مثل التشكيلات الهندسية للزخارف الإسلامية ،فليست هذه التشكيلات سوى ثمرة لتفكير قائم على الحساب الدقيق قد يتحول إلى نوع من الرسوم البيانية لأفكار فلسفية و معان روحية
وعلى الصعيد العمراني فإنه وكما يذكر عالم الآثار الاسلامية د.خالد عزب في كتابه "فقه العمران"، أن العرب قد اهتموا بمبدأ إحياء الأرض وأعطوه أولوية على العبادات الفردية، واعتمدوا في بنيانهم على قاعدتين إثنين هما "لا ضرر ولا ضرار" و"الأمر بالعرف"، فالأول بأن لا يترتب على البناء ضرر للآخرين أو مضرة منهم عليه، والثاني هو بالإلتزام بالعرف البنائي أو بالبيئة العمرانية المحيطة، والذي ترتب عليهما مبدأ "حيازة الضرر"التي صاغت المدينة الإسلامية صياغة شاملة، و"حيازة الضرر" تعني: أن من سبق في البناء يحوز العديد من المزايا التي يجب على جاره الذي يأتي بعده أن يحترمها وأن يأخذها في إعتباره عند بنائه مسكنه، وبذلك يصيغ المنزل الأسبق المنزل اللاحق، نتيجتاً لحيازته الضرر، مسيطراً على حقوق عديدة يحترمها الآخرون عند بنائهم، و يضيف الدكتور خالد عزب كيف أن الطرق في المدينة الإسلامية لم يتم رسمها وتخطيطها سلفاً، بل تنطلق من أن الطريق حق عام للجميع، ولذلك السيطرة عليه من حق المارة أو المستخدمين له، ويلاحظ أن إتساع الطريق ووظيفته مرهونة بعدد المارة والمستخدمين، فالطريق النافذ من شمال المدينة لجنوبها يسمى الطريق العام، والطرق التي تتفرع منه، وتكون نافذة لجوانب المدينة، تسمى بالطرق العامة الخاصة، والطرق المتفرعة منهما وغير النافذة فهي طرق خاصة ملك لسكانها. ونرى كيف ساهمت انحناءات الطرق على خلق غموض وخصوصية لها تجعل العابرين منها يترددون في الدخول الى أزقتها، وقامت المشربيات بدور كاميرات المراقبة التي تسمح بمراقبة حركة المارة من قبل سكان الحي، مع المحافظة على خصوصية بيوتهم. وفي الكتاب الكثير من الأمثلة التي توضح لنا كيف شكلت الأخلاق عمارتهم بشكل جمعي، حي وعضوي
نستطيع أن نستنتج أن ما قدمه الإسلام للعرب هو بأن جمع شتاتهم ووحدهم على الأخلاق مع إحترام طبيعتهم الحرة التي تمقت القيود، مركّزاً على مفهوم الرقابة الذاتية "التقوى" التي تساعدهم على جلاء جواهرهم وإحيائها، وتوزيع المسؤولية على جميع أفراد المجتمع، وهي الآلية التي من خلالها تشكلت مدنيتهم، فأول ما يشيد في المدن الإسلامية هي الجوامع، لجمعها الناس على إحياء روحهم الأخلاقية وتجديد وحدتهم الاجتماعية. لقد أعطى الإسلام فرصة للعرب بأن يعبرو عن وجدانهم المكتنز طوال آلاف السنين من خلال عمارتهم التي كانت خاصة بظروف زمانهم، والتي جمعت بين الطبيعة البكر والمجتمع الخام، فعمارتهم أرض أحييت لتتشكل من خلال أخلاق أهلها، نجدها آثار أخلاق مجردة وحية، في حالة تساؤلٍ واستجابة وتكونٍ مستمر. واليوم لم يبق لنا منها سوى أطلالها، مفتقدةً من كان يحيي ظلالها، شاهدةً على ما افتقدناه من أخلاقٍٍ، وتكافلٍ وعروبة، مستفزتاً بصمودها كبرياءنا، مقاومتاً ما نعيشه من تصحر خرساني، غير آبهة ببقائها بقدر ما هي مهتمة بإحياء ما تبقى منا