ArchiNet آركي نت

View Original

جذور عمارة المجتمع الغربي - بواسطة عبدالرحمن زياد عجينة

سأكمل في هذا المقال عن تبعات إختلاف مفهوم البيئة، و تأثيره على هيكلية المجتمع الغربي الحداثي و تشكيل عمارته 

إنطلاقاً من مفهوم البيئة الغربي الحداثي الذي ناقشنا في المقال السابق و الذي ينطلق من النظر لها من عين سامية، خارجة عنه، فإنه بذلك نكون قد سلمنا بعدة مسلمات، الاولى بأن الإنسان يقع في نفس درجة المواد و الموجودات الحية و الغير الحية، و الثانية بأن العلم منظور منفصل عن البيئة و عن الانسان ، يسمو عنها ليحكم عليها ويمارس سلطته عليها، و الثالثة أن الأصل في الموجودات معرفة من قبل العلم ما لم يتم إثبات عكس ذلك إما من خلال المنهجية العلمية، أو من خلال عدم تطابق النظرية مع الواقع الملموس ليعيد النظر بها و يعيد تصنيفها وترتيبها


يرجع السبب في وجود هذه الهيكلة الإجتماعية التي تفترض منظور أسمى يُنَظِّر للناس حياتهم و يعرِف ما هو الأولى لمصلحتهم إلى فترة ما قبل الحداثة، و الذي إستطاع ماكس فيبر في كتابه "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية"، أن يربط بين الهيكلة الكنسية للمجتمع الأوروبية بفترة ما قبل الحداثة واستمرارها على ما هي عليه فيما بعدها، بمعنى آخر أن المجتمع الغربي و لوجود ردة فعل على محاربة الكنيسة للحقائق العلمية التي تتعارض معها، قد قامت بإستبدال السلطة البابوية في قمة الهرم بالعلماء و حافظت على نفس الهيكلية الهرمية للكنيسة. فإننا بتقديسنا للعلم نكون قد افترضنا قدسية العلماء، تماما كما يقدسون الرب عن طريق تقديسهم للبابا المعصوم عن الخطأ، و النقطة الثانية أن الكنيسة كانت تمثل نفسها على انها المالك الوحيد للحقيقة عن طريق الوحي الإلهي، و حقائق الوحي الإلهي ليست مرتبطة فقط بما هو كائن بل أيضاً بما سيكون، لأن الوحي عابر للزمان و المكان و متسق مع حقيقة العالم و طبيعته، أما في حالة العلم فإنه مدرك لما إستطاع إدراكه و إثباته العلماء، واستشرافه للمستقبل لا يعدو أن يكون مجرد فرضية لما يمكن أن تكون عليه الحقيقة إذا ما بنيناها على الحقائق العلمية المكتسبة. و النقطة الثالثة وهي أن العلم اللاهوتي و المسلم به يجب أن ينشر من قمة الهرم البابوي إلى بقية أفراد المجتمع، و أن الفرد بتطبيقه التعاليم الإلهية و اكتسابه لها يرتقي في الهيكلية الإجتماعية حتى يصل إلى البابوية. و بتطبيق هذه الهيكلة على العلم، يصبح الانسان وعاءاً مفرغاً لا قيمة له، إلى أن يعبأ من خلال المؤسسات التعليمية والإعلامية بالحقائق العلمية. و يتحول المرء إلى حداثي و غير حداثي ، مؤمن و كافر، إذا ما قسناها بما يناظرها بمفاهيم الكنسية الباباوية، بانتمائه لهذه المنظومة أو بعدمه

 

قد إستطاع المجتمع الغربي بالفعل تحرير نفسه من جور المؤسسة البابوية الفاسدة عليه، و تحسين جودة الحياة داخل مجتمعه، لينقل حياة الرفاهية التي كانت حكراً على المجتمع الباباوي، كما نراها في قصور التيفولي و في روما، و تغطت من خلال العلم جميع أفراد المجتمع، لكنه و بمحافظته على المنظومة ذاتها قد قام بتحويل الجور الذي كان يطبق عليه إلى سفينة فضاء تسبح في عالم مختلف و مجهول، سواء على صعيد تعامله مع الطبيعة أو المجتمعات المختلفة عنه. فإنها ترى في من لا ينتمي لمنظومة الحداثة على أنها موارد طبيعية خام لم يتم استغلالها بعد، و أنها غير مؤهلة لأن تدير شؤونها بنفسها، وهذا ما أثبته إدوارد سعيد في كتابه "الثقافة و الإمبريالية"، و الذي يذكر فيه كيف استطاعت الحداثة أن توظف الأدب لتصف العالم الغير المكتشف من قبل الغربي على أنه ينتظره ليكتشف كنوزه و ينقذ شعوبه من البربرية و الهمجية، و الطريقة التي كانوا يجلبون فيها الأفارقة و يضعونهم داخل الأقفاص في حديقة الحيوان، كأنها من أنواع القرود التي تم إكتشافها في غابات أفريقيا. و من هنا فإننا نلاحظ أن المشكلة الحقيقية في الحداثة لا تكمن في تقديس العلم، لأن العلم مطلب سامي و مقدس، و لم تكن المشكلة أساساً في الديانة المسيحية، و لكن بفسادها الأخلاقي، و المجتمع الغربي الحداثي باستبداله البابا بالعلماء، و محافظته على الهيكلة نفسها، و عدم تركيزه على الاهتمام بالبعد الأخلاقي و الروحي، قد استحوذ عليه مبدأ المصلحة و القوة و أصبحت عقلانيته المادية هي الطاغية على سلوكه البشري، مختزلتاً بذلك إنسانيته، مسيطرتاً عليه و على تشكيل عالمه 

فإذا ما نظرنا للعمارة من خلال هذا المنظور التاريخي لجذور المجتمع الغربي فإننا سنرى إستمرار الطريقة التي كانت الكنيسة توظف فيها الفن و العمارة لتعزيز سلطتها على الناس، بتحويل فناني الكنائس إلى مخرجين و صناع أفلام، يضعون تصوراتهم لما يمكن للعلم أن يوصلنا إليه من حياة رفيهة و متطورة، و المعماريين الى مشكلين لتصورات العلم عن العالم، فبدلاً من ان يكون الفن و العمارة دور محصور في الكنيسة، تحول ليصبح مشكلاً للفضاء الجمعي المعاش معززاً لفكرة الإيمان بالمستقبل العلمي، و جعل المدينة ساحة صراع قوى بصرية لجذب الانتباه، و سباق سيادة المشهد المدني، بإستخدام شتا الطرق المتاحة، إما عن طريق التنافس بالارتفاع كعمارة الابراج، او عن طريق الجمال مثل ابنية المعماري فرانك جيري ، او عمارة المستقبل كعمارة ريم كولهاس المستوحى بعضها من أفلام حرب النجوم، او عمارة التقنية التي تحول المبنى إلى آله مكشوفة كمتحف جورج بومبيدو في باريس، وكل هذه الاشكال و التعبيرات لا يعدو الإنسان فيها أن يكون سوى ممولٍ لها و مالئاً لفراغاتها، لتعبر العمارة من خلاله عن قدرة العلم في خلق مستقبل أفضل للعالم، و التي نجدها سرعان ما اصطدمت رفاهيتها بالواقع، من خلال الإحتباس الحراري و اختراق طبقة الأوزون. فإن الإبقاء على هذا المنظور قد حول العلم الى دين، و المعماري فيها إلى صانع أوث